بسم الله الرحمن الرحيم
التقديم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الرسول الأمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وعلى التابعين لهم بإحسان.
أما بعد:
فقد اطلعت على هذه الرسالة الموجزة للشيخ الفاضل مازن بن عبد الكريم الفريح فوجدتها دراسة نفيسة وتحفة تربوية منطلقها القرآن ودليلها السنة وغايتها بذر الإيمان في القلوب ونشر الوئام والسلام لصلاح الحياة .
ولاشك أن الدعاة أحوج الناس إلى معرفة طرق ووسائل رد القلوب الشاردة إلى حياض الهدى ومناهل التقوى فشكر الله له سعيه ورزقنا وإياه الإخلاص والتقوى ونفع بعمله هذا جميع المسلمين.
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وصحبه وسلم تسليماً كثيراً...
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) آل عمران الآية 102.
( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ، وبث منهما رجالا كثيراً ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً ) النساء الآية : 1.
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا لله وقولوا قولاً سديداً، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً ) الأحزاب، الآيتان 70، 71
أما بعد :
فإن كسب قلوب الناس ليكونوا بعد ذلك للدعوة محبين وإليها مقبلين ولجندها مناصرين من الموضوعات المهمة التي ينبغي أن يوليها الدعاة عنايتهم واهتمامهم .. وأن يكون لها نصيب كبير من تفكيرهم وتخطيطهم ..
وتأتي أهمية هذا الموضوع من جوانب عدة منها :
أولاً : أن كسب قلوب الناس طريق ووسيلة إلى تقبلهم الحق وبعض الناس معرض عن دعوة الله لعدم انسجامه مع الداعية نتيجة لبعض تصرفاته الخاطئة وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (( يا أيها الناس إن منكم منفرين ))
ثانياً: صنف من الدعاة لا يهتم بمعاملة الناس ولا يبالي بموقف الناس منه ولهذا نشأت بينه وبينهم هوة كبيرة حالت دون تبليغ دعوة الله في الوقت الذي نجد فيه بعضاً من أصحاب الأفكار المنحرفة أوجدوا لأفكارهم أتباعاً ولمبادئهم جنوداً وأنصاراً لأنهم عرفوا كيف يتعاملون مع الناس فكسبوا قلوبهم وحركوا نفوسهم إلى ما لديهم من باطل .
ثالثاً : أن كسب الدعاة لقلوب الناس يبدد الجهود المضنية لأعداء الدين على اختلاف مشاربهم وتباين نحلهم والتي يبذلونها في تشويه صورة دعاة الحق بما يبثونه من إشاعات وافتراءات كاذبة عبر وسائل الإعلام المختلفة.. فمعاملة الداعية للناس معاملة الأب الشفيق الرحيم الذي يحرص عليهم كما يحرص على نفسه ويحب لهم ما يحب لها يسد الأبواب أمام أهل الباطل فلا يستطيعون النيل منه أو إثارة الشبهات حوله..
رابعاً: حاجة الدعوة للتفاعل مع الناس ، وهذا التفاعل لن يثمر الثمار المرجوة منه إلا إذا أخذنا بأساليب كسب القلوب التي سنها لنا الرسول (صلى الله عليه وسلم) وفي حديث ابن عمر رضي الله عنه ، عن النبي (صلى الله عليه وسلم ) أنه قال: " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم"
خامساً: أن قيام الدعاة بكسب قلوب الناس من حولهم يزيد في ترابط أفراد المجتمع المسلم ، ويجعلهم أفراداً متراحمين متعاطفين وهذا مطلب شرعي في حد ذاته: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
كل هذه الأمور وغيرها تجعل الحديث عن موضوع" كيف تكسب الناس" في غاية الأهمية .. وقد تناولنا الموضوع من خلال استعراض بعض الوسائل النبوية في كسب قلوب البرية ثم أتبعناها بذكر بعض المنفرات التي تنفر الناس من الداعية وتمنع استجابتهم له .
أسأل الله ، عز وجل ، أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم ، وأن ينفع به إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه:
مازن بن عبد الكريم الفريح
20/12/1412هجرية
الوسائل النبوية في كسب قلوب البرية
الوسيلة الأولى: خدمة الناس وقضاء حوائجهم
جبلت النفوس على حب من أحسن إليها ، والميل إلى من يسعى في قضاء حاجاتها ؛ ولذلك قيل:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم
فطالما استعبد الإنسان إحسان
وأولى الناس بالكسب هم أهلك وأقرباؤك ؛ ولذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):"خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي". وعندما سئلت عائشة- رضي الله عنها- ما كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم): يفعل قالت " كان يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة يتوضأ ويخرج إلى الصلاة".
ومنا من لا يبالي بكسب قلوب أقرب الناس إليه كوالديه وزوجته وأقربائه فتجد قلوبهم مثخنة بالكره أو بالضغينة عليه لتقصيره في حقهم، وانشغاله عن أداء واجباته تجاههم. ومن أصناف الناس الذين نحتاج لكسبهم ولهم الأفضلية على غيرهم الجيران لقوله (صلى الله عليه وسلم ) "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ". وأي إكرام أكبر من دعوتهم إلى الهدى والتقى ؛ بل قال عليه أفضل الصلاة والسلام-: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه أو قال لجاره ما يحب لنفسه" . ولذلك ينبغي أن نتحبب إلى الجار فنبدأه بالسلام ونعوده في المرض ، ونعزيه في المصيبة ، ونهنئه في الفرح ونصفح عن زلته ، ولا نتطلع إلى عورته، ونستر ما انكشف منها ، ونهتم بالإهداء إليه وزيارته ، وصنع المعروف معه، وعدم إيذائه.. وقد نفى الرسول (صلى الله عليه وسلم) الإيمان الكامل عن الذي يؤذي جاره فقال:" والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، قال قائل من هو يا رسول الله ؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه".
والبوائق هي الشرور والأذى .
ومن أصناف الناس الذين ينبغي أن نكسبهم إلى صف الدعوة- أخي الحبيب- من تقابلهم في العمل ممن هم بحاجة إليك.. فإذا كنت طبيباً فالمرضى ، وإذا كنت مدرساً فالطلاب ، وإذا كنت موظفاً فالمراجعون . فلا بد من كسب قلوبهم من خلال تقديمك لأقصى ما تستطيعه من جهد في خدمتهم و إنجاز معاملاتهم وعدم تأخيرها.. وكم منا من يسمع من يدعو على موظف لم يكلف نفسه في تأدية ما عليه من واجبات في عمله ويؤخر معاملات الناس . وعند الترمذي وأبي داود- بإسناد صحيح –عنه (صلى الله عليه وسلم)" من ولاه الله شيئا من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة".
وبالجملة فإن الوظيفة مجال خصب لكسب قلوب الناس وتبليغهم دعوة الله .. و إنما خصصت هذه الأصناف الثلاثة من الناس بالذكر وهم الأهل أو الأقرباء والجيران ومن نلقاهم في وظائفنا لسببين هما: كثرة اللقاء بهم، والثاني كثرة التقصير أو الإهمال لحقوقهم مماله الأثر السلبي في تقبلهم لما ندعوهم إليه؛ إذن فالمسلم فضلا عن الداعية ينبغي أن يسع الناس كلهم بخلقه وتضحيته ولذلك وصفت خديجة الرسول( صلى الله عليه وسلم) فقالت :"إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب االوسيلة الثانية: الحلم وكظم الغيظ
يخطئ بعض الناس- أحياناً – في حقك.. يوعد فيخلف أو يتأخر أو يجرحك بلسانه فلا بد لكسبه من حلم وكظم للغيظ لأنك صاحب هدف وغاية تريد أن تصل إليها ؛ ولذا لابد من حسن تصرفك والله –عز و جل- يمتدح هذا الصنف من الدعاة فيقول : (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) آل عمران، الآية: 134 . وعن أنس – رضي الله عنه –قال : "كنت أمشي مع رسول الله وعليه برد غليظ الحاشية ، فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة حتى أزالت الرداء إلى صفحة عاتق رسول (الله صلى الله عليه وسلم) وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جذبته ثم قال : يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك .. فالتفت إليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وضحك ، وأمر له بعطاء". وهذا الموقف من سيد الخلق –عليه أفضل الصلاة والسلام – لا يحتاج منا إلى تعليق سوى أن نقول : ما قاله الحق عز و جل في وصف نبيه(وإنك لعلى خلق عظيم)القلم، الآية: 4.
الوسيلة الثالثة: السماحة في المعاملة
يوجز الرسول( صلى الله عليه وسلم)أصول المعاملة التي يدخل فيها المسلم إلى قلوب الناس ويكسب ودهم وحبهم فيقول : "رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى" وفي رواية "وإذا قضى" . فالسماحة في البيع : ألا يكون البائع شحيحاً بسلعته ، مغالياً في الربح ، فظاً في معاملة الناس .
والسماحة في الشراء أن يكون المشتري سهلا مع البائع فلا يكثر من المساومة ؛ بل يكون كريم النفس وبالأخص إذا كان المشتري غنيا والبائع فقيراً معدماً. والسماحة في الاقتضاء : أي عند طلب الرجل حقه أو دينه فانه يطلبه برفق ولين.. وربما تجاوز عن المعسر أو أنظره كما في حديث أبي هريرة مرفوعا :" كان رجل يداين الناس فإذا رأى معسرا قال لفتيانه تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا فتجاوز الله عنه" والسماحة في القضاء : هو الوفاء بكل ما عليه من دين أو حقوق على أحسن وجه في الوقت الموعود وانظر كيف دخل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قلب هذا الرجل الذي روى قصته الإمام البخاري في صحيحه عن أبى هريرة قال: ( أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فتقاضاه فأغلظ فهمّ به أصحابه فقال النبي صلى الله عليه وسلم دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً ثم قال أعطوه سناً مثل سنه قالوا يا رسول الله لا نجد إلا أفضل من سنه فقال أعطوه فإن خيركم أحسنكم قضاء ) فقال الرجل ( أوفيتني أوفى الله بك ) .
ومن السماحة في المعاملة : عدم التشديد في محاسبة من قصر في حقك . فعن أنس قال (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين والله ما قال لي : أف قط ولا قال لشيء فعلته لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا )
الوسيلة الرابعة : المداراة
المداراة وليست المداهنة .. والمداراة هي لين الكلام والبشاشة وحسن العشرة لأناس عندهم شيء من الفجور والفسق لمصلحة شرعية . روى البخاري في صحيحه عن عائشة – رضي الله عنها : (( أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال بئس أخو العشيرة .. فلما جلس تطلق له وجه النبي صلى الله عليه وسلم وأنبسط إليه فلما انطلق الرجل قالت له عائشة يا رسول الله رأيت الرجل قلت كذا وكذا ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه فقال الرسول صلى الله عليه وسلم يا عائشة متى عهدتني فاحشا ، إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه ) .
قال ابن حجر رحمه الله نقلا عن القرطبي ( وفي الحديث جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك من الجور في الحكم والدعاء إلى البدعة مع جواز مداراتهم اتقاء شرهم ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله تعالى .. ثم قال – لا زال الكلام للقرطبي تبعا لعياض : والفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا وهي مباحة وربما استحبت والمداهنة ترك الدين لصلاح الدنيا والعياذ بالله إذن فنحن بحاجة إلى كسب قلوب الفسقة أيضا بلين الكلام والقيام بحسن العشرة لهدايتهم إلى الصواب – أو على الأقل – لاتقاء شرهم )..
وبعض الفسقة اليوم أدوات بيد أهل العلمانية يجولون بهم ويصولون بسبب بعد أهل الخير عنهم أو عدم مداراتهم كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم
الوسيلة الخامسة :إدخال السرور على الآخرين
وهي من أهم الوسائل في تقوية الروابط وامتزاج القلوب وائتلافها .. كما إن إدخال السرور على المسلم يعد من أفضل القربات وأعظم الطاعات التي تقرب العبد إلى رب الأرض والسموات .. ولإدخال السرور إلى القلوب المسلمة طرق كثيرة و أبواب عديدة منها ما ورد في حديث ابن عمر :
( أحب الناس إلى الله أنفعهم وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مؤمن !! ولكن كيف تدخله؟! قال : تكشف عنه كرباً أو تقضي عنه ديناً أو تطرد عنه جوعاً . ولئن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف شهراً في المسجد ومن كف غضبه ستر الله عورته ومن كظم غيظه ولو شاء الله أن يمضيه أمضاه ملأ الله في قلبه رجاء يوم القيامة ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجة حتى يثبتها له ثبت الله قدمه يوم تزل فيه الأقدام ) وإن سوء الخلق ليفسد الأعمال فلا أقل من الابتسامة والبشاشة فابتسامتك بوجه من تلقاه من المسلمين لها أثر في كسب قلوبهم ؛ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ( لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق ) والوجه الطلق هو الذي تظهر على محياه البشاشة والسرور .. قال عبد الله بن الحارث ( ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقال جرير ( ما حجبني رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم ) .
كما كان صلى الله عليه وسلم ينبسط مع الصغير والكبير يلاطفهم ويداعبهم وكان لا يقول إلا حقا وإليك هاتين الصورتين من صور مداعبته صلى الله عليه وسلم وكسبه لقلوب صحابته .
الأولى – مع كبار السن :
أخرج أحمد عن أنس – رضي الله عنه – ( أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهراً وكان رسول الله يحبه وكان دميماً (قبيحاً) فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه ولا يبصره الرجل فقال : أرسلني .. من هذا ؟ فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يلصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول (من يشتري العبد ؟) فقال : يا رسول الله – إذن – والله تجدني كاسدا فقال رسول الله لكن عند الله لست بكاسد أو قال عند الله غال .
أما الصورة الثانية : فهي ملاطفته للأطفال وإدخال السرور عليهم .. فعند البخاري من حديث أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً وكان لي أخ فطيم يسمى أبا عمير لديه عصفور مريض سمه النغير فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلاطف الطفل الصغير ويقول ( يا أبا عمير ما فعل النغير ) .
وهكذا أخي الداعية ما ترك رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) سبيلاً إلى قلوب الناس إلا وسلكه ما لم يكن حراماً ، فإذا كان كذلك كان أبعد الناس عنه(صلى الله عليه وسلم).
الوسيلة السادسة:
احترام المسلمين وتقديرهم والتأدب معهم وتبجيلهم وإجلالهم فقد كان صلى الله عليه وسلم يجل من يدخل عليه ويكرمه وربما بسط له ثوبه ويؤثره بالوسادة التي تحته ويعزم عليه في الجلوس عليها إن أبى وينزل الناس منازلهم ويعرف فضل أولي الفضل وقال عليه أفضل الصلاة والسلام يوم الفتح ( من دخل دار أبى سفيان فهو آمن ) وقال صلى الله عليه وسلم (ليس منا من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه ) ومما ينبغي أن نذكرك به – أخي الداعية – في هذا المقام :
احترام من خالفك في الرأي مما فيه مجال للاختلاف ومتسع للنظر .. وعدم انتقاصه ورميه بالجهل وقلة الفقه وسوء الظن به ما دام ظاهره السلامة .
احترام المتحدث وعدم مقاطعته . قال ابن كثير رحمه الله وكان صلى الله عليه وسلم إذا حدثه أحد التفت إليه بوجهه وجسمه وأصغى إليه تمام الإصغاء ولا يقطع الحديث حتى يكون المتكلم هو الذي يقطعه .
الوسيلة السابعة : حسن الكلام
لقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على طيب القول وحسن الكلام ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم (( الكلمة الطيبة صدقة )) لما لها من أثر في تأليف القلوب وتطييب النفوس إنه ليس من المهم توصيل الحقيقة إلى الناس فقط ولكن الأهم هو الوعاء الذي سيحمل تلك الحقيقة بها .. فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول ((زينوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا)) فمن باب أولى أن نقول للدعاة زينوا الدعوة بحسن كلامكم فان الكلام الحسن يزيد الدعوة حسنا وجاذبية .. وخاصة عند النصح .. أن النصح علاج مر فليصحبه شئ من حلو الكلام فكن من الذين يعملون الحق ويرحمون الخلق واسمع إلى يحيى بن معاذ يقول : (( أحسن شئ كلام رقيق يستخرج من بحر عميق على لسان رجل رقيق )) وكم من كلمة سوء نابية ألقاها صاحبها ولم يبال بنتائجها وبتبعاتها فرقت بين القلوب ومزقت الصفوف وزرعت الحقد والبغضاء والكراهية والشحناء في النفوس ؛ ولذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب ) .
أيها الأخ الكريم .. وأختم هذه الوسيلة بهذا الموقف التربوي الذي دار فيه الحوار بين الرسول صلى الله عليه وسلم وعائشة رضي الله عنها قالت عائشة رضي الله عنها : (( دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا السام عليكم قالت عائشة ففهمتها فقلت :عليكم السام واللعنة قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلاً يا عائشة فقلت يا رسول الله أو لم تسمع ما قالوا ؟ قالت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قلت وعليكم )) فكلام الرسول صلى الله عليه وسلم مع أهل الفجور والفسوق والكفر يحتاج منا إلى دراسة متأنية ففيه البصيرة النافذة والحكمة البالغة .
الوسيلة الثامنة : التواضع ولين الجانب
لقد كسب رسول الله صلى الله عليه وسلم بتواضعه ولين جانبه قلوب الناس من حوله .ذكر أنس رضي الله عنه صورة من صور تواضعه عليه الصلاة والسلام فقال (( إن امرأة كان في عقلها شئ جاءته فقالت إن لي إليك حاجة قال اجلسي يا أم فلان في أي طرق المدينة شئت أجلس إليك حتى أقضي حاجتك قال فجلست فجلس النبي صلى الله عليه وسلم إليها حتى فرغت من حاجتها)) وعند البخاري : إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت حتى يقضي حاجتها ودخل عليه رجل فأصابته من هيبته رعدة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( هون عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد )) وبهذا الأسلوب والتواضع ولين الجانب دخل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى شغاف قلوب الناس من حوله .
أما الظهور بمظهر الأستاذية والنظر إلى المسلمين نظرة دونية فهي صفة شيطانية لا تورث إلا البغض والقطيعة . ((قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين )) ص، الآية :76 .وقد قال صلى الله عليه وسلم (( من كان هيناً ليناً سهلاً حرمه الله على النار))
الوسيلة التاسعة : الجود والكرم
إليك – أخي الحبيب – هذا السخاء وذلك الجود يأسر القلوب ويطيب النفوس... فعن أنس رضي الله عنه قال: (( إن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه غنماً بين جبلين فرجع إلى بلده وقال :أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى فاقة )) فانظر وفقك الله كيف أثر هذا السخاء النبوي على قلب هذا الرجل وجعل منه – بإذن الله – بعد أن كان حرباً على الإسلام أصبح داعية إليه .
وعن جابر رضي الله عنه قال (( ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قط فقال لا)) ومن الجود الهدية وقد قال صلى الله عليه وسلم (( تهادوا تحابوا )) فالهدية باب من أبواب كسب القلوب وتنمية التآلف بينها .
الوسيلة العاشرة : الرفق
فعن عائشة – رضي الله عنها – قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله )) بل الرفق مفضل على كثير من الأخلاق؛لذا كان ما يعطيه الله لصاحبه من الثناء الحسن في الدنيا والأجر الجزيل في الآخرة أكثر مما يعطيه على غيره .. لقوله عليه أفضل الصلاة والسلام((إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي بالرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على سواه )) .
ومن المواطن التي يتأكد فيها الرفق عند تقويم خطأ الجاهل. وانظر الي هذه الصورة المعبرة في تقويم الأشخاص عند خطئهم والتي يملؤها الرفق والرحمة .
فعن معاوية بن الحكم السلمي – رضي الله عنه- قال ((بينما أنا أُصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم فقلت واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فما رأيتهم يصمتونني لكني سكت فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه فوا الله ما نهرني ولا ضربني ولا شتمني قال (( إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القران )) أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت يا رسول الله إني حديث عهد بجاهلية وقد جاء الله بالإسلام وإن منا رجالا يأتون الكهان قال (( فلا تأتهم ))قلت ومنا رجال يتطيرون قال (( ذلك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنهم )) .
والأمثلة على ذلك كثيرة كحديث الأعرابي الذي بال في المسجد ومعاملة الرسول صلى الله عليه وسلم للشاب الذي استأذنه بالزنا وحسن تصرفه عليه الصلاة والسلام معه .
وفي الجملة ؛ فإن الذي ينظر إلى هذه الوسائل يجد أنها لا تكاد تخرج عن دائرة الأخلاق ، فالتزامها إنما هو التزام بالخلق الحسن الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم (( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقا))
وقبل هذا وكله و بعده لا بد أن نذكرك بملاك ذلك كله وهو الإقبال على الله الإقبال على رب القلوب ونيل محبته لحديث أبى هريرة – رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إذا أحب الله عبداً نادى جبريل إن الله يحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في أهل الأرض) ) وحسبك بداعية قد وضع الله له القبول في أهل الأرض قال ابن حجر رحمه الله ((والمراد بالقبول : قبول القلوب له بالمحبة والميل إليه بالرضا عنه ))
وزاد الإمام مسلم رحمه الله (( وإذا أبغض عبداً دعا جبريل إني أبغض فلاناً فأبغضه فيبغضه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء : إن الله يبغض فلانا فأبغضوه فيبغضه أهل السماء ثم توضع له البغضاء في الأرض )) والعياذ بالله .
المنفرات
لا شك أن مساوئ الأخلاق عموماً من أشد الأمور تنفيراً للناس عن الداعية ،إذا اتصف بشيء منها،بيد أننا سنخص بعض المنفرات لما لها من الأثر الكبير في تنفير الناس وانفضاضهم ،ومن هذه المنفرات:
أولا عدم مراعاة أحوال الناس وظروفهم.. وقد نبه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الأمر فقال لمعشر الدعاة (( إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء )) فهي وصية من داعية هذه الأمة عليه أفضل الصلاة والسلام لجميع الدعاة بضرورة مراعاة أحوال الناس في ركن من أهم أركان هذا الدين ؛لذا فمراعاة الناس فيما دون ذلك مرتبة من العبادات والمعاملات من باب أولى .
وإليك هذه الحادثة التي تدل على أن إغفال هذه الوصية يؤدي إلى نفرة الناس وربما يسبب تركهم للعمل الصالح أو تأخرهم عنه .
كان معاذ يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يأتي فيؤم قومه فصلى ليلة مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم أتى قومه فأمهم فافتتح بسورة البقرة فانحرف رجل فسلم ثم صلى وحده وانصرف فقالوا له أنافقت يا فلان ؟ قال لا والله ولآتين رسول الله صلى الله عليه فلأخبرنه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنا أصحاب نواضح نعمل بالنهار وأن معاذاً صلى معك العشاء ثم أتى فافتتح بسورة البقرة فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على معاذ فقال : (( أفتان أنت ؟ اقرأ بكذا اقرأ بكذا ( وفي رواية : أفتان أنت ثلاثا ؟! اقرأ الشمس وضحاها وسبح اسم ربك الأعلى ونحوهما ))
ثانياً التعلق بمتاع الدنيا وزخرفها : وهذا المنفر أصله حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (( ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس )) فالرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا كيف نكسب الناس وننال محبتهم وذلك بالزهد فيما في أيديهم لأننا إذا تركنا لهم ما أحبوه أحبونا وقلوب أكثرهم مجبولة مطبوعة على حب الدنيا ومن نازع إنسانا في محبوبه كرهه وقلاه ومن لم يعارضه فيه أحبه واصطفاه قال الحسن البصري لا يزال الرجل كريما على الناس ما لم يطمع فيما بين أيديهم فحينئذ يستخفون به ويكرهون حديثه ويبغضونه .
وقال أعرابي لأهل البصرة من سيدكم ؟ قالوا الحسن قال بم سادكم ؟ قالوا احتاج الناس إلى علمه واستغنى هو عن دنياهم ، فقال: ما أحسن هذا.
ثالثاً الغلظة والفظاظة : وهذا المنفر أصله قول الحق عز وجل لسيد الدعاة عليه أفضل الصلاة والسلام ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ) آل عمران الآية 159. وما من شيء أشد تنفيراً للناس عن الحق والخير مثل دعوتهم إليه بالغلظة والخشونة .
ولقد انحسر أثر بعض الدعاة المخلصين في الناس ولم يوفقوا إلى إيصال ما لديهم من حق إلى عموم المسلمين وغيرهم لأنهم أخطأوا الأسلوب الذي يفتحون به قلوب الناس وعقولهم فغلب عليهم الجدل بالتي هي أخشن والمواجهة بالغلظة والحدة .
رابعاً : مخالفة القول العمل : ما أشد بغض الناس لداعية خالفت أفعاله أقواله وما أعظم نفرتهم ؛ بل ما أكبر مقت الله عز وجل لهذه الصفة الخسيسة ، حيث يقول عز وجل: ( يا أيها الذين أمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) الصف الآيتان : 2 ،3
ولقد أنكر الله سبحانه على أقوام يأمرون الناس بالبر ويدعون أنفسهم في غيها ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ) البقرة الآية : 44
ولذلك قال شعيب لقومه ما أخبرنا الله به حيث يقول الله تعالى على لسانه : ( و ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد الاّ الإصلاح ما استطعت ) هود الآية 88 . ولكن لابد من الإجابة على شبهة يرددها بعض الناس نعرضها على شكل سؤال.. وهو هل يترك الداعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حالة عدم تمكنه من فعله ؟
قال ابن كثير رحمه الله : فكل من الأمر بالمعروف وفعله واجب لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قول العلماء من السلف والخلف . وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها ، وهذا ضعيف . والصحيح أن العالم يأمر بالمعروف وإن لم يفعله ، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه ، قال سعيد بن جبير : لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر . قلت القائل –ابن كثير - : لكنه والحالة هذه مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية لعلمه بها ومخالفته على بصيرة فانه ليس من يعلم كمن لا يعلم " .
خامساً : التعسير والتعقيد : هناك فريق من الناس يبحثون عن كل صعب ومعسر ليقدموه للناس على أنه الإسلام ، دون مراعاة ليسر الإسلام ورفعه للحرج عن الناس . وهذا خلاف لما كان عليه أفضل الصلاة والسلام حيث قالت عنه عائشة رضي الله عنها :" ما خير بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً ؛ فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه" ولما للتيسير – في حدود الشرع – من أثر في تأليف القلوب وزيادة ربطها بهذا الدين نادى الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعاة قائلا : " يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا ". قال النووي : لو اقتصر على يسروا لصدق على من يسر مرة وعسر كثيراً فقال :"ولا تعسروا " لنفي التعسير في جميع الأحوال ، وكذلك في قوله :" ولا تنفروا " والمراد تأليف من قرب إسلامه ، وترك التشديد عليه في الابتداء، وكذلك الزجر عن المعاصي ينبغي أن يكون بتلطيف ليقبل ، وكذلك تعليم العلم ينبغي أن يكون بالتدريج لأن الشي إذا كان في ابتدائه سهلا حبب إلى من يدخل فيه ، وتلقاه بانبساط ، وكانت عاقبته غالباً الازدياد بخلاف ضده.))
التقديم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الرسول الأمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وعلى التابعين لهم بإحسان.
أما بعد:
فقد اطلعت على هذه الرسالة الموجزة للشيخ الفاضل مازن بن عبد الكريم الفريح فوجدتها دراسة نفيسة وتحفة تربوية منطلقها القرآن ودليلها السنة وغايتها بذر الإيمان في القلوب ونشر الوئام والسلام لصلاح الحياة .
ولاشك أن الدعاة أحوج الناس إلى معرفة طرق ووسائل رد القلوب الشاردة إلى حياض الهدى ومناهل التقوى فشكر الله له سعيه ورزقنا وإياه الإخلاص والتقوى ونفع بعمله هذا جميع المسلمين.
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وصحبه وسلم تسليماً كثيراً...
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) آل عمران الآية 102.
( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ، وبث منهما رجالا كثيراً ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً ) النساء الآية : 1.
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا لله وقولوا قولاً سديداً، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً ) الأحزاب، الآيتان 70، 71
أما بعد :
فإن كسب قلوب الناس ليكونوا بعد ذلك للدعوة محبين وإليها مقبلين ولجندها مناصرين من الموضوعات المهمة التي ينبغي أن يوليها الدعاة عنايتهم واهتمامهم .. وأن يكون لها نصيب كبير من تفكيرهم وتخطيطهم ..
وتأتي أهمية هذا الموضوع من جوانب عدة منها :
أولاً : أن كسب قلوب الناس طريق ووسيلة إلى تقبلهم الحق وبعض الناس معرض عن دعوة الله لعدم انسجامه مع الداعية نتيجة لبعض تصرفاته الخاطئة وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (( يا أيها الناس إن منكم منفرين ))
ثانياً: صنف من الدعاة لا يهتم بمعاملة الناس ولا يبالي بموقف الناس منه ولهذا نشأت بينه وبينهم هوة كبيرة حالت دون تبليغ دعوة الله في الوقت الذي نجد فيه بعضاً من أصحاب الأفكار المنحرفة أوجدوا لأفكارهم أتباعاً ولمبادئهم جنوداً وأنصاراً لأنهم عرفوا كيف يتعاملون مع الناس فكسبوا قلوبهم وحركوا نفوسهم إلى ما لديهم من باطل .
ثالثاً : أن كسب الدعاة لقلوب الناس يبدد الجهود المضنية لأعداء الدين على اختلاف مشاربهم وتباين نحلهم والتي يبذلونها في تشويه صورة دعاة الحق بما يبثونه من إشاعات وافتراءات كاذبة عبر وسائل الإعلام المختلفة.. فمعاملة الداعية للناس معاملة الأب الشفيق الرحيم الذي يحرص عليهم كما يحرص على نفسه ويحب لهم ما يحب لها يسد الأبواب أمام أهل الباطل فلا يستطيعون النيل منه أو إثارة الشبهات حوله..
رابعاً: حاجة الدعوة للتفاعل مع الناس ، وهذا التفاعل لن يثمر الثمار المرجوة منه إلا إذا أخذنا بأساليب كسب القلوب التي سنها لنا الرسول (صلى الله عليه وسلم) وفي حديث ابن عمر رضي الله عنه ، عن النبي (صلى الله عليه وسلم ) أنه قال: " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم"
خامساً: أن قيام الدعاة بكسب قلوب الناس من حولهم يزيد في ترابط أفراد المجتمع المسلم ، ويجعلهم أفراداً متراحمين متعاطفين وهذا مطلب شرعي في حد ذاته: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
كل هذه الأمور وغيرها تجعل الحديث عن موضوع" كيف تكسب الناس" في غاية الأهمية .. وقد تناولنا الموضوع من خلال استعراض بعض الوسائل النبوية في كسب قلوب البرية ثم أتبعناها بذكر بعض المنفرات التي تنفر الناس من الداعية وتمنع استجابتهم له .
أسأل الله ، عز وجل ، أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم ، وأن ينفع به إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه:
مازن بن عبد الكريم الفريح
20/12/1412هجرية
الوسائل النبوية في كسب قلوب البرية
الوسيلة الأولى: خدمة الناس وقضاء حوائجهم
جبلت النفوس على حب من أحسن إليها ، والميل إلى من يسعى في قضاء حاجاتها ؛ ولذلك قيل:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم
فطالما استعبد الإنسان إحسان
وأولى الناس بالكسب هم أهلك وأقرباؤك ؛ ولذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):"خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي". وعندما سئلت عائشة- رضي الله عنها- ما كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم): يفعل قالت " كان يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة يتوضأ ويخرج إلى الصلاة".
ومنا من لا يبالي بكسب قلوب أقرب الناس إليه كوالديه وزوجته وأقربائه فتجد قلوبهم مثخنة بالكره أو بالضغينة عليه لتقصيره في حقهم، وانشغاله عن أداء واجباته تجاههم. ومن أصناف الناس الذين نحتاج لكسبهم ولهم الأفضلية على غيرهم الجيران لقوله (صلى الله عليه وسلم ) "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ". وأي إكرام أكبر من دعوتهم إلى الهدى والتقى ؛ بل قال عليه أفضل الصلاة والسلام-: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه أو قال لجاره ما يحب لنفسه" . ولذلك ينبغي أن نتحبب إلى الجار فنبدأه بالسلام ونعوده في المرض ، ونعزيه في المصيبة ، ونهنئه في الفرح ونصفح عن زلته ، ولا نتطلع إلى عورته، ونستر ما انكشف منها ، ونهتم بالإهداء إليه وزيارته ، وصنع المعروف معه، وعدم إيذائه.. وقد نفى الرسول (صلى الله عليه وسلم) الإيمان الكامل عن الذي يؤذي جاره فقال:" والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، قال قائل من هو يا رسول الله ؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه".
والبوائق هي الشرور والأذى .
ومن أصناف الناس الذين ينبغي أن نكسبهم إلى صف الدعوة- أخي الحبيب- من تقابلهم في العمل ممن هم بحاجة إليك.. فإذا كنت طبيباً فالمرضى ، وإذا كنت مدرساً فالطلاب ، وإذا كنت موظفاً فالمراجعون . فلا بد من كسب قلوبهم من خلال تقديمك لأقصى ما تستطيعه من جهد في خدمتهم و إنجاز معاملاتهم وعدم تأخيرها.. وكم منا من يسمع من يدعو على موظف لم يكلف نفسه في تأدية ما عليه من واجبات في عمله ويؤخر معاملات الناس . وعند الترمذي وأبي داود- بإسناد صحيح –عنه (صلى الله عليه وسلم)" من ولاه الله شيئا من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة".
وبالجملة فإن الوظيفة مجال خصب لكسب قلوب الناس وتبليغهم دعوة الله .. و إنما خصصت هذه الأصناف الثلاثة من الناس بالذكر وهم الأهل أو الأقرباء والجيران ومن نلقاهم في وظائفنا لسببين هما: كثرة اللقاء بهم، والثاني كثرة التقصير أو الإهمال لحقوقهم مماله الأثر السلبي في تقبلهم لما ندعوهم إليه؛ إذن فالمسلم فضلا عن الداعية ينبغي أن يسع الناس كلهم بخلقه وتضحيته ولذلك وصفت خديجة الرسول( صلى الله عليه وسلم) فقالت :"إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب االوسيلة الثانية: الحلم وكظم الغيظ
يخطئ بعض الناس- أحياناً – في حقك.. يوعد فيخلف أو يتأخر أو يجرحك بلسانه فلا بد لكسبه من حلم وكظم للغيظ لأنك صاحب هدف وغاية تريد أن تصل إليها ؛ ولذا لابد من حسن تصرفك والله –عز و جل- يمتدح هذا الصنف من الدعاة فيقول : (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) آل عمران، الآية: 134 . وعن أنس – رضي الله عنه –قال : "كنت أمشي مع رسول الله وعليه برد غليظ الحاشية ، فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة حتى أزالت الرداء إلى صفحة عاتق رسول (الله صلى الله عليه وسلم) وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جذبته ثم قال : يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك .. فالتفت إليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وضحك ، وأمر له بعطاء". وهذا الموقف من سيد الخلق –عليه أفضل الصلاة والسلام – لا يحتاج منا إلى تعليق سوى أن نقول : ما قاله الحق عز و جل في وصف نبيه(وإنك لعلى خلق عظيم)القلم، الآية: 4.
الوسيلة الثالثة: السماحة في المعاملة
يوجز الرسول( صلى الله عليه وسلم)أصول المعاملة التي يدخل فيها المسلم إلى قلوب الناس ويكسب ودهم وحبهم فيقول : "رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى" وفي رواية "وإذا قضى" . فالسماحة في البيع : ألا يكون البائع شحيحاً بسلعته ، مغالياً في الربح ، فظاً في معاملة الناس .
والسماحة في الشراء أن يكون المشتري سهلا مع البائع فلا يكثر من المساومة ؛ بل يكون كريم النفس وبالأخص إذا كان المشتري غنيا والبائع فقيراً معدماً. والسماحة في الاقتضاء : أي عند طلب الرجل حقه أو دينه فانه يطلبه برفق ولين.. وربما تجاوز عن المعسر أو أنظره كما في حديث أبي هريرة مرفوعا :" كان رجل يداين الناس فإذا رأى معسرا قال لفتيانه تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا فتجاوز الله عنه" والسماحة في القضاء : هو الوفاء بكل ما عليه من دين أو حقوق على أحسن وجه في الوقت الموعود وانظر كيف دخل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قلب هذا الرجل الذي روى قصته الإمام البخاري في صحيحه عن أبى هريرة قال: ( أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فتقاضاه فأغلظ فهمّ به أصحابه فقال النبي صلى الله عليه وسلم دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً ثم قال أعطوه سناً مثل سنه قالوا يا رسول الله لا نجد إلا أفضل من سنه فقال أعطوه فإن خيركم أحسنكم قضاء ) فقال الرجل ( أوفيتني أوفى الله بك ) .
ومن السماحة في المعاملة : عدم التشديد في محاسبة من قصر في حقك . فعن أنس قال (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين والله ما قال لي : أف قط ولا قال لشيء فعلته لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا )
الوسيلة الرابعة : المداراة
المداراة وليست المداهنة .. والمداراة هي لين الكلام والبشاشة وحسن العشرة لأناس عندهم شيء من الفجور والفسق لمصلحة شرعية . روى البخاري في صحيحه عن عائشة – رضي الله عنها : (( أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال بئس أخو العشيرة .. فلما جلس تطلق له وجه النبي صلى الله عليه وسلم وأنبسط إليه فلما انطلق الرجل قالت له عائشة يا رسول الله رأيت الرجل قلت كذا وكذا ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه فقال الرسول صلى الله عليه وسلم يا عائشة متى عهدتني فاحشا ، إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه ) .
قال ابن حجر رحمه الله نقلا عن القرطبي ( وفي الحديث جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك من الجور في الحكم والدعاء إلى البدعة مع جواز مداراتهم اتقاء شرهم ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله تعالى .. ثم قال – لا زال الكلام للقرطبي تبعا لعياض : والفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا وهي مباحة وربما استحبت والمداهنة ترك الدين لصلاح الدنيا والعياذ بالله إذن فنحن بحاجة إلى كسب قلوب الفسقة أيضا بلين الكلام والقيام بحسن العشرة لهدايتهم إلى الصواب – أو على الأقل – لاتقاء شرهم )..
وبعض الفسقة اليوم أدوات بيد أهل العلمانية يجولون بهم ويصولون بسبب بعد أهل الخير عنهم أو عدم مداراتهم كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم
الوسيلة الخامسة :إدخال السرور على الآخرين
وهي من أهم الوسائل في تقوية الروابط وامتزاج القلوب وائتلافها .. كما إن إدخال السرور على المسلم يعد من أفضل القربات وأعظم الطاعات التي تقرب العبد إلى رب الأرض والسموات .. ولإدخال السرور إلى القلوب المسلمة طرق كثيرة و أبواب عديدة منها ما ورد في حديث ابن عمر :
( أحب الناس إلى الله أنفعهم وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مؤمن !! ولكن كيف تدخله؟! قال : تكشف عنه كرباً أو تقضي عنه ديناً أو تطرد عنه جوعاً . ولئن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف شهراً في المسجد ومن كف غضبه ستر الله عورته ومن كظم غيظه ولو شاء الله أن يمضيه أمضاه ملأ الله في قلبه رجاء يوم القيامة ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجة حتى يثبتها له ثبت الله قدمه يوم تزل فيه الأقدام ) وإن سوء الخلق ليفسد الأعمال فلا أقل من الابتسامة والبشاشة فابتسامتك بوجه من تلقاه من المسلمين لها أثر في كسب قلوبهم ؛ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ( لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق ) والوجه الطلق هو الذي تظهر على محياه البشاشة والسرور .. قال عبد الله بن الحارث ( ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقال جرير ( ما حجبني رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم ) .
كما كان صلى الله عليه وسلم ينبسط مع الصغير والكبير يلاطفهم ويداعبهم وكان لا يقول إلا حقا وإليك هاتين الصورتين من صور مداعبته صلى الله عليه وسلم وكسبه لقلوب صحابته .
الأولى – مع كبار السن :
أخرج أحمد عن أنس – رضي الله عنه – ( أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهراً وكان رسول الله يحبه وكان دميماً (قبيحاً) فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه ولا يبصره الرجل فقال : أرسلني .. من هذا ؟ فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يلصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول (من يشتري العبد ؟) فقال : يا رسول الله – إذن – والله تجدني كاسدا فقال رسول الله لكن عند الله لست بكاسد أو قال عند الله غال .
أما الصورة الثانية : فهي ملاطفته للأطفال وإدخال السرور عليهم .. فعند البخاري من حديث أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً وكان لي أخ فطيم يسمى أبا عمير لديه عصفور مريض سمه النغير فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلاطف الطفل الصغير ويقول ( يا أبا عمير ما فعل النغير ) .
وهكذا أخي الداعية ما ترك رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) سبيلاً إلى قلوب الناس إلا وسلكه ما لم يكن حراماً ، فإذا كان كذلك كان أبعد الناس عنه(صلى الله عليه وسلم).
الوسيلة السادسة:
احترام المسلمين وتقديرهم والتأدب معهم وتبجيلهم وإجلالهم فقد كان صلى الله عليه وسلم يجل من يدخل عليه ويكرمه وربما بسط له ثوبه ويؤثره بالوسادة التي تحته ويعزم عليه في الجلوس عليها إن أبى وينزل الناس منازلهم ويعرف فضل أولي الفضل وقال عليه أفضل الصلاة والسلام يوم الفتح ( من دخل دار أبى سفيان فهو آمن ) وقال صلى الله عليه وسلم (ليس منا من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه ) ومما ينبغي أن نذكرك به – أخي الداعية – في هذا المقام :
احترام من خالفك في الرأي مما فيه مجال للاختلاف ومتسع للنظر .. وعدم انتقاصه ورميه بالجهل وقلة الفقه وسوء الظن به ما دام ظاهره السلامة .
احترام المتحدث وعدم مقاطعته . قال ابن كثير رحمه الله وكان صلى الله عليه وسلم إذا حدثه أحد التفت إليه بوجهه وجسمه وأصغى إليه تمام الإصغاء ولا يقطع الحديث حتى يكون المتكلم هو الذي يقطعه .
الوسيلة السابعة : حسن الكلام
لقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على طيب القول وحسن الكلام ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم (( الكلمة الطيبة صدقة )) لما لها من أثر في تأليف القلوب وتطييب النفوس إنه ليس من المهم توصيل الحقيقة إلى الناس فقط ولكن الأهم هو الوعاء الذي سيحمل تلك الحقيقة بها .. فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول ((زينوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا)) فمن باب أولى أن نقول للدعاة زينوا الدعوة بحسن كلامكم فان الكلام الحسن يزيد الدعوة حسنا وجاذبية .. وخاصة عند النصح .. أن النصح علاج مر فليصحبه شئ من حلو الكلام فكن من الذين يعملون الحق ويرحمون الخلق واسمع إلى يحيى بن معاذ يقول : (( أحسن شئ كلام رقيق يستخرج من بحر عميق على لسان رجل رقيق )) وكم من كلمة سوء نابية ألقاها صاحبها ولم يبال بنتائجها وبتبعاتها فرقت بين القلوب ومزقت الصفوف وزرعت الحقد والبغضاء والكراهية والشحناء في النفوس ؛ ولذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب ) .
أيها الأخ الكريم .. وأختم هذه الوسيلة بهذا الموقف التربوي الذي دار فيه الحوار بين الرسول صلى الله عليه وسلم وعائشة رضي الله عنها قالت عائشة رضي الله عنها : (( دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا السام عليكم قالت عائشة ففهمتها فقلت :عليكم السام واللعنة قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلاً يا عائشة فقلت يا رسول الله أو لم تسمع ما قالوا ؟ قالت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قلت وعليكم )) فكلام الرسول صلى الله عليه وسلم مع أهل الفجور والفسوق والكفر يحتاج منا إلى دراسة متأنية ففيه البصيرة النافذة والحكمة البالغة .
الوسيلة الثامنة : التواضع ولين الجانب
لقد كسب رسول الله صلى الله عليه وسلم بتواضعه ولين جانبه قلوب الناس من حوله .ذكر أنس رضي الله عنه صورة من صور تواضعه عليه الصلاة والسلام فقال (( إن امرأة كان في عقلها شئ جاءته فقالت إن لي إليك حاجة قال اجلسي يا أم فلان في أي طرق المدينة شئت أجلس إليك حتى أقضي حاجتك قال فجلست فجلس النبي صلى الله عليه وسلم إليها حتى فرغت من حاجتها)) وعند البخاري : إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت حتى يقضي حاجتها ودخل عليه رجل فأصابته من هيبته رعدة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( هون عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد )) وبهذا الأسلوب والتواضع ولين الجانب دخل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى شغاف قلوب الناس من حوله .
أما الظهور بمظهر الأستاذية والنظر إلى المسلمين نظرة دونية فهي صفة شيطانية لا تورث إلا البغض والقطيعة . ((قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين )) ص، الآية :76 .وقد قال صلى الله عليه وسلم (( من كان هيناً ليناً سهلاً حرمه الله على النار))
الوسيلة التاسعة : الجود والكرم
إليك – أخي الحبيب – هذا السخاء وذلك الجود يأسر القلوب ويطيب النفوس... فعن أنس رضي الله عنه قال: (( إن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه غنماً بين جبلين فرجع إلى بلده وقال :أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى فاقة )) فانظر وفقك الله كيف أثر هذا السخاء النبوي على قلب هذا الرجل وجعل منه – بإذن الله – بعد أن كان حرباً على الإسلام أصبح داعية إليه .
وعن جابر رضي الله عنه قال (( ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قط فقال لا)) ومن الجود الهدية وقد قال صلى الله عليه وسلم (( تهادوا تحابوا )) فالهدية باب من أبواب كسب القلوب وتنمية التآلف بينها .
الوسيلة العاشرة : الرفق
فعن عائشة – رضي الله عنها – قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله )) بل الرفق مفضل على كثير من الأخلاق؛لذا كان ما يعطيه الله لصاحبه من الثناء الحسن في الدنيا والأجر الجزيل في الآخرة أكثر مما يعطيه على غيره .. لقوله عليه أفضل الصلاة والسلام((إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي بالرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على سواه )) .
ومن المواطن التي يتأكد فيها الرفق عند تقويم خطأ الجاهل. وانظر الي هذه الصورة المعبرة في تقويم الأشخاص عند خطئهم والتي يملؤها الرفق والرحمة .
فعن معاوية بن الحكم السلمي – رضي الله عنه- قال ((بينما أنا أُصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم فقلت واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فما رأيتهم يصمتونني لكني سكت فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه فوا الله ما نهرني ولا ضربني ولا شتمني قال (( إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القران )) أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت يا رسول الله إني حديث عهد بجاهلية وقد جاء الله بالإسلام وإن منا رجالا يأتون الكهان قال (( فلا تأتهم ))قلت ومنا رجال يتطيرون قال (( ذلك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنهم )) .
والأمثلة على ذلك كثيرة كحديث الأعرابي الذي بال في المسجد ومعاملة الرسول صلى الله عليه وسلم للشاب الذي استأذنه بالزنا وحسن تصرفه عليه الصلاة والسلام معه .
وفي الجملة ؛ فإن الذي ينظر إلى هذه الوسائل يجد أنها لا تكاد تخرج عن دائرة الأخلاق ، فالتزامها إنما هو التزام بالخلق الحسن الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم (( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقا))
وقبل هذا وكله و بعده لا بد أن نذكرك بملاك ذلك كله وهو الإقبال على الله الإقبال على رب القلوب ونيل محبته لحديث أبى هريرة – رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إذا أحب الله عبداً نادى جبريل إن الله يحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في أهل الأرض) ) وحسبك بداعية قد وضع الله له القبول في أهل الأرض قال ابن حجر رحمه الله ((والمراد بالقبول : قبول القلوب له بالمحبة والميل إليه بالرضا عنه ))
وزاد الإمام مسلم رحمه الله (( وإذا أبغض عبداً دعا جبريل إني أبغض فلاناً فأبغضه فيبغضه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء : إن الله يبغض فلانا فأبغضوه فيبغضه أهل السماء ثم توضع له البغضاء في الأرض )) والعياذ بالله .
المنفرات
لا شك أن مساوئ الأخلاق عموماً من أشد الأمور تنفيراً للناس عن الداعية ،إذا اتصف بشيء منها،بيد أننا سنخص بعض المنفرات لما لها من الأثر الكبير في تنفير الناس وانفضاضهم ،ومن هذه المنفرات:
أولا عدم مراعاة أحوال الناس وظروفهم.. وقد نبه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الأمر فقال لمعشر الدعاة (( إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء )) فهي وصية من داعية هذه الأمة عليه أفضل الصلاة والسلام لجميع الدعاة بضرورة مراعاة أحوال الناس في ركن من أهم أركان هذا الدين ؛لذا فمراعاة الناس فيما دون ذلك مرتبة من العبادات والمعاملات من باب أولى .
وإليك هذه الحادثة التي تدل على أن إغفال هذه الوصية يؤدي إلى نفرة الناس وربما يسبب تركهم للعمل الصالح أو تأخرهم عنه .
كان معاذ يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يأتي فيؤم قومه فصلى ليلة مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم أتى قومه فأمهم فافتتح بسورة البقرة فانحرف رجل فسلم ثم صلى وحده وانصرف فقالوا له أنافقت يا فلان ؟ قال لا والله ولآتين رسول الله صلى الله عليه فلأخبرنه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنا أصحاب نواضح نعمل بالنهار وأن معاذاً صلى معك العشاء ثم أتى فافتتح بسورة البقرة فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على معاذ فقال : (( أفتان أنت ؟ اقرأ بكذا اقرأ بكذا ( وفي رواية : أفتان أنت ثلاثا ؟! اقرأ الشمس وضحاها وسبح اسم ربك الأعلى ونحوهما ))
ثانياً التعلق بمتاع الدنيا وزخرفها : وهذا المنفر أصله حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (( ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس )) فالرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا كيف نكسب الناس وننال محبتهم وذلك بالزهد فيما في أيديهم لأننا إذا تركنا لهم ما أحبوه أحبونا وقلوب أكثرهم مجبولة مطبوعة على حب الدنيا ومن نازع إنسانا في محبوبه كرهه وقلاه ومن لم يعارضه فيه أحبه واصطفاه قال الحسن البصري لا يزال الرجل كريما على الناس ما لم يطمع فيما بين أيديهم فحينئذ يستخفون به ويكرهون حديثه ويبغضونه .
وقال أعرابي لأهل البصرة من سيدكم ؟ قالوا الحسن قال بم سادكم ؟ قالوا احتاج الناس إلى علمه واستغنى هو عن دنياهم ، فقال: ما أحسن هذا.
ثالثاً الغلظة والفظاظة : وهذا المنفر أصله قول الحق عز وجل لسيد الدعاة عليه أفضل الصلاة والسلام ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ) آل عمران الآية 159. وما من شيء أشد تنفيراً للناس عن الحق والخير مثل دعوتهم إليه بالغلظة والخشونة .
ولقد انحسر أثر بعض الدعاة المخلصين في الناس ولم يوفقوا إلى إيصال ما لديهم من حق إلى عموم المسلمين وغيرهم لأنهم أخطأوا الأسلوب الذي يفتحون به قلوب الناس وعقولهم فغلب عليهم الجدل بالتي هي أخشن والمواجهة بالغلظة والحدة .
رابعاً : مخالفة القول العمل : ما أشد بغض الناس لداعية خالفت أفعاله أقواله وما أعظم نفرتهم ؛ بل ما أكبر مقت الله عز وجل لهذه الصفة الخسيسة ، حيث يقول عز وجل: ( يا أيها الذين أمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) الصف الآيتان : 2 ،3
ولقد أنكر الله سبحانه على أقوام يأمرون الناس بالبر ويدعون أنفسهم في غيها ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ) البقرة الآية : 44
ولذلك قال شعيب لقومه ما أخبرنا الله به حيث يقول الله تعالى على لسانه : ( و ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد الاّ الإصلاح ما استطعت ) هود الآية 88 . ولكن لابد من الإجابة على شبهة يرددها بعض الناس نعرضها على شكل سؤال.. وهو هل يترك الداعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حالة عدم تمكنه من فعله ؟
قال ابن كثير رحمه الله : فكل من الأمر بالمعروف وفعله واجب لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قول العلماء من السلف والخلف . وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها ، وهذا ضعيف . والصحيح أن العالم يأمر بالمعروف وإن لم يفعله ، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه ، قال سعيد بن جبير : لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر . قلت القائل –ابن كثير - : لكنه والحالة هذه مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية لعلمه بها ومخالفته على بصيرة فانه ليس من يعلم كمن لا يعلم " .
خامساً : التعسير والتعقيد : هناك فريق من الناس يبحثون عن كل صعب ومعسر ليقدموه للناس على أنه الإسلام ، دون مراعاة ليسر الإسلام ورفعه للحرج عن الناس . وهذا خلاف لما كان عليه أفضل الصلاة والسلام حيث قالت عنه عائشة رضي الله عنها :" ما خير بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً ؛ فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه" ولما للتيسير – في حدود الشرع – من أثر في تأليف القلوب وزيادة ربطها بهذا الدين نادى الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعاة قائلا : " يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا ". قال النووي : لو اقتصر على يسروا لصدق على من يسر مرة وعسر كثيراً فقال :"ولا تعسروا " لنفي التعسير في جميع الأحوال ، وكذلك في قوله :" ولا تنفروا " والمراد تأليف من قرب إسلامه ، وترك التشديد عليه في الابتداء، وكذلك الزجر عن المعاصي ينبغي أن يكون بتلطيف ليقبل ، وكذلك تعليم العلم ينبغي أن يكون بالتدريج لأن الشي إذا كان في ابتدائه سهلا حبب إلى من يدخل فيه ، وتلقاه بانبساط ، وكانت عاقبته غالباً الازدياد بخلاف ضده.))