خلاَفة عُثمان بن عَفّان
لما دفن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد أن صلى عليه صهيب، جمع المقداد بن عمرو أصحاب الشورى في بيت المسور بن مخرمة، وكانوا خمسة وهم : عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبدالرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، ومعهم عبدالله بن عمر، وطلحة بن عبيد الله غائب، وكان أبو طلحة الأنصاري يحرسهم، ويحجبهم من أن يدخل الناس إليهم.
تداول القوم الأمر، وتكلم كل منهم بكلمة تبيّن الاشفاق على الأمة والخوف من الفرقة. ثم قال عبد الرحمن بن عوف وقد كان في البداية أول المتكلمين "أيكم يخرج منها نفسه، ويتقلدها على أن يوليها أفضلكم؟" فلم يجبه أحد، فقال : فأنا انخلع منها، فقال عثمان : أنا أول من رضي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "أمين في الأرض أمين في السماء"، فقال القوم : قد رضينا - وعلي ساكت - فقال : ما تقول يا أبا الحسن ؟ قال : اعطني موثقاً لتؤثرن الحق ولا تتبع الهوى، ولا تخص ذا رحم، ولا تألوا الأمة فقال : اعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على من بدلّ وغيّر، وأن ترضوا من اخترت لكم، عليّ ميثاق ألا أخص ذا رحمٍ لرحمه، ولا آلو المسلمين. فأخذ منهم ميثاقاً وأعطاهم مثله، فقال لعلي : إنك تقول : إني أحق من حضر بالأمر لقرابتك وسابقتك وحسن أثرك في الدين ولم تبعد، ولكن أرأيت لو صُرف هذا الأمر عنك فلم تحضر، من كنت ترى من هؤلاء الرهط أحق بالأمر ؟ قال : عثمان. وخلا بعثمان، فقال : تقول : شيخ من بني عبد مناف، وصهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه، لي سابقة وفضل - لم تبعد - فلن يصرف هذا الأمر عني، ولكن لو لم تحضر فأي هؤلاء الرهط أحق به ؟ قال : علي. ثم خلا بالزبير فكلمه بمثل ما كلم به علياً وعثمان، فقال : علي. ثم خلا بسعد، فكلمه، فقال : عثمان. وهكذا حصر الأمر بين علي وعثمان، ولم يرد عبدالرحمن بن عوف أن يختار هو فيرجح الكفة، ويُنظر إليه أنه هو الذي اختار أو عيّن، فقد كانوا رضي الله عنهم يريدون أن يبتعدوا عن مثل هذه المواقف والمواطن.
ودار عبد الرحمن يلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن وافى المدينة من أمراء الأجناد وأشراف الناس يشاورهم، فكان أكثرهم يشير إلى عثمان، حتى إذا كانت الليلة التي يستكمل في صبيحتها الأجل وهو ثلاثة أيام، أتى منزل المسور بن مخرمة بعد ابهيرار من الليل، فأيقظه فقال : ألا أراك نائماً ولم أذق هذه الليلة كثير غمض انطلق فادع الزبير وسعداً. ويبدو أن عبد الرحمن رغب أن ينهي القضية بين أصحاب الشورى بالذات بالمناقشة، وأن يدع رأي من استشار خارجهم، عسى أن يوفق في كسب رأي الزبير وسعد إلى جانب أحد صاحبي الأمر عثمان أو علي، وبعد اجتماعه بالزبير ثم بسعد رأى أن رأيهما لا يزال كالسابق، عندها حزم رأيه أن يأخذ البيعة لأحدهما أمام الصحابة حتى تكون أقوى وحتى لا تكون محاباة - معاذ الله - وحتى لا يستطيع أحدهما أن يعترض أو يظن شيئاً. وبعد أن صلى المسلمون الفجر في المسجد، جمع عبد الرحمن أصحاب الشورى، وبعث إلى من حضر من المهاجرين وأهل السابقة والفضل من الأنصار، وإلى أمراء الأجناد، فاجتمعوا حتى غصّ المسجد بأهله. فقام عبد الرحمن وقال : أيها الناس، إن الناس قد أجمعوا أن يلحق أهل الأمصار بأمصارهم وقد علموا من أميرهم. فأبدى بعض المسلمين رأيهم فتكلم سعيد بن زيد وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأعطى رأيه لصالح عبد الرحمن إذ قال : إن نراك لها أهلاً، فقال عبد الرحمن : أشيروا عليّ بغير هذا فقام عمار بن ياسر وأيد علياً، ووافقه المقداد بن عمرو، ثم قام عبد الله بن سعد ابن أبي سرح فأيد عثمان ووافقه عبدالله بن أبي ربيعة. وكادت الأصوات تعلو، وعندها وقف سعد بن أبي وقاص وقال : يا عبد الرحمن، افرغ قبل أن يفتن الناس، فقال عبد الرحمن: إني قد نظرت وشاورت، فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلاً، ودعا علياً، فقال : عليك عهد الله وميثاقه لتعملنّ بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده ؟ قال : أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي، ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلي، قال : نعم، فبايعه، وبايع الناس جميعاً.
وهكذا استطاع عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن يمنع الخلاف والفرقة، وألا يدخل رأي غير أصحاب الشورى الذين كانوا بجانب عثمان، وألا يقف بجانب واحدٍ من الرجلين وقد تساوت الآراء وتعادلت الأصوات، لقد استطاع هذا بمعرفة طبيعة الصحابيين الجليلين رضي الله عنهما.
وفي اليوم الذي بويع فيه عثمان قدم طليحة بن عبيد الله أحد رجال الشورى -وقد كان غائباً- فقيل له : بايع عثمان، فقال : أكل قريش راضٍ به ؟ قال : نعم، قال :أكل الناس بايعوك ؟ قال : نعم، قال : قد رضيت، لا أرغب عما قد أجمعوا عليه، وبايعه.
وصعد عثمان بعد بيعته المنبر وهو أكثر أهل الشورى كآبة، وتكلم كلمة قصيرة نصح فيها الناس وذكّرهم بالآخرة، وحذّرهم من فتنة الدنيا.
وكانت بيعته رضي الله عنه في الأيام الأخيرة من شهر ذي الحجة إلى غرة المحرم من السنة الرابعة والعشرين من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم : وكان الولاة على الأمصار كما يلي :
والي مكة المكرمة : نافع بن عبد الحارث الخزاعي.
والي الطائف : سفيان بن عبد الله الثقفي.
والي صنعاء : يعلى بن منبه، حليف بني نوفل بن عبد مناف.
والي جَنَد : عبدالله بن أبي ربيعة المخزومي.
والي الكوفة : المغيرة بن شعبة الثقفي.
والي البصرة : أبو موسى عبدالله بن قيس الأشعري.
والي الشام : معاوية بن أبي سفيان الأموي.
والي حمص : عمير بن سعد.
والي مصر : عمرو بن العاص السهمي.
والي البحرين : عثمان بن أبي العاص الثقفي.
[/color]
لما دفن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد أن صلى عليه صهيب، جمع المقداد بن عمرو أصحاب الشورى في بيت المسور بن مخرمة، وكانوا خمسة وهم : عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبدالرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، ومعهم عبدالله بن عمر، وطلحة بن عبيد الله غائب، وكان أبو طلحة الأنصاري يحرسهم، ويحجبهم من أن يدخل الناس إليهم.
تداول القوم الأمر، وتكلم كل منهم بكلمة تبيّن الاشفاق على الأمة والخوف من الفرقة. ثم قال عبد الرحمن بن عوف وقد كان في البداية أول المتكلمين "أيكم يخرج منها نفسه، ويتقلدها على أن يوليها أفضلكم؟" فلم يجبه أحد، فقال : فأنا انخلع منها، فقال عثمان : أنا أول من رضي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "أمين في الأرض أمين في السماء"، فقال القوم : قد رضينا - وعلي ساكت - فقال : ما تقول يا أبا الحسن ؟ قال : اعطني موثقاً لتؤثرن الحق ولا تتبع الهوى، ولا تخص ذا رحم، ولا تألوا الأمة فقال : اعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على من بدلّ وغيّر، وأن ترضوا من اخترت لكم، عليّ ميثاق ألا أخص ذا رحمٍ لرحمه، ولا آلو المسلمين. فأخذ منهم ميثاقاً وأعطاهم مثله، فقال لعلي : إنك تقول : إني أحق من حضر بالأمر لقرابتك وسابقتك وحسن أثرك في الدين ولم تبعد، ولكن أرأيت لو صُرف هذا الأمر عنك فلم تحضر، من كنت ترى من هؤلاء الرهط أحق بالأمر ؟ قال : عثمان. وخلا بعثمان، فقال : تقول : شيخ من بني عبد مناف، وصهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه، لي سابقة وفضل - لم تبعد - فلن يصرف هذا الأمر عني، ولكن لو لم تحضر فأي هؤلاء الرهط أحق به ؟ قال : علي. ثم خلا بالزبير فكلمه بمثل ما كلم به علياً وعثمان، فقال : علي. ثم خلا بسعد، فكلمه، فقال : عثمان. وهكذا حصر الأمر بين علي وعثمان، ولم يرد عبدالرحمن بن عوف أن يختار هو فيرجح الكفة، ويُنظر إليه أنه هو الذي اختار أو عيّن، فقد كانوا رضي الله عنهم يريدون أن يبتعدوا عن مثل هذه المواقف والمواطن.
ودار عبد الرحمن يلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن وافى المدينة من أمراء الأجناد وأشراف الناس يشاورهم، فكان أكثرهم يشير إلى عثمان، حتى إذا كانت الليلة التي يستكمل في صبيحتها الأجل وهو ثلاثة أيام، أتى منزل المسور بن مخرمة بعد ابهيرار من الليل، فأيقظه فقال : ألا أراك نائماً ولم أذق هذه الليلة كثير غمض انطلق فادع الزبير وسعداً. ويبدو أن عبد الرحمن رغب أن ينهي القضية بين أصحاب الشورى بالذات بالمناقشة، وأن يدع رأي من استشار خارجهم، عسى أن يوفق في كسب رأي الزبير وسعد إلى جانب أحد صاحبي الأمر عثمان أو علي، وبعد اجتماعه بالزبير ثم بسعد رأى أن رأيهما لا يزال كالسابق، عندها حزم رأيه أن يأخذ البيعة لأحدهما أمام الصحابة حتى تكون أقوى وحتى لا تكون محاباة - معاذ الله - وحتى لا يستطيع أحدهما أن يعترض أو يظن شيئاً. وبعد أن صلى المسلمون الفجر في المسجد، جمع عبد الرحمن أصحاب الشورى، وبعث إلى من حضر من المهاجرين وأهل السابقة والفضل من الأنصار، وإلى أمراء الأجناد، فاجتمعوا حتى غصّ المسجد بأهله. فقام عبد الرحمن وقال : أيها الناس، إن الناس قد أجمعوا أن يلحق أهل الأمصار بأمصارهم وقد علموا من أميرهم. فأبدى بعض المسلمين رأيهم فتكلم سعيد بن زيد وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأعطى رأيه لصالح عبد الرحمن إذ قال : إن نراك لها أهلاً، فقال عبد الرحمن : أشيروا عليّ بغير هذا فقام عمار بن ياسر وأيد علياً، ووافقه المقداد بن عمرو، ثم قام عبد الله بن سعد ابن أبي سرح فأيد عثمان ووافقه عبدالله بن أبي ربيعة. وكادت الأصوات تعلو، وعندها وقف سعد بن أبي وقاص وقال : يا عبد الرحمن، افرغ قبل أن يفتن الناس، فقال عبد الرحمن: إني قد نظرت وشاورت، فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلاً، ودعا علياً، فقال : عليك عهد الله وميثاقه لتعملنّ بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده ؟ قال : أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي، ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلي، قال : نعم، فبايعه، وبايع الناس جميعاً.
وهكذا استطاع عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن يمنع الخلاف والفرقة، وألا يدخل رأي غير أصحاب الشورى الذين كانوا بجانب عثمان، وألا يقف بجانب واحدٍ من الرجلين وقد تساوت الآراء وتعادلت الأصوات، لقد استطاع هذا بمعرفة طبيعة الصحابيين الجليلين رضي الله عنهما.
وفي اليوم الذي بويع فيه عثمان قدم طليحة بن عبيد الله أحد رجال الشورى -وقد كان غائباً- فقيل له : بايع عثمان، فقال : أكل قريش راضٍ به ؟ قال : نعم، قال :أكل الناس بايعوك ؟ قال : نعم، قال : قد رضيت، لا أرغب عما قد أجمعوا عليه، وبايعه.
وصعد عثمان بعد بيعته المنبر وهو أكثر أهل الشورى كآبة، وتكلم كلمة قصيرة نصح فيها الناس وذكّرهم بالآخرة، وحذّرهم من فتنة الدنيا.
وكانت بيعته رضي الله عنه في الأيام الأخيرة من شهر ذي الحجة إلى غرة المحرم من السنة الرابعة والعشرين من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم : وكان الولاة على الأمصار كما يلي :
والي مكة المكرمة : نافع بن عبد الحارث الخزاعي.
والي الطائف : سفيان بن عبد الله الثقفي.
والي صنعاء : يعلى بن منبه، حليف بني نوفل بن عبد مناف.
والي جَنَد : عبدالله بن أبي ربيعة المخزومي.
والي الكوفة : المغيرة بن شعبة الثقفي.
والي البصرة : أبو موسى عبدالله بن قيس الأشعري.
والي الشام : معاوية بن أبي سفيان الأموي.
والي حمص : عمير بن سعد.
والي مصر : عمرو بن العاص السهمي.
والي البحرين : عثمان بن أبي العاص الثقفي.
[/color]